عودة الروح للصحف المطبوعة

-A A +A
عودة الروح للصحف المطبوعة
حمدي قاسم

عندما يدق جرس الموبايل ويقول لك أحد الأشخاص خبراً سيئاً فستصاب بالضيق، وعندما يأتيك إتصالاً من نفس الشخص فى اليوم التالى ويقول لك خبراً آخر سيئاً فبالتأكيد أنك ستتضايق أيضاً، وعندما يعاود الإتصال بك فى اليوم الثالث فستتردد فى الرد عليه لأنك تعودت أن ذلك الشخص هو مصدر للأخبار السيئة، أما فى اليوم الرابع فإنك بالتأكيد لن ترد عليه، ولو اعتبرنا هذا الشخص هو وسائل الإعلام التى تنقل الأخبار للمواطن والتى هى فى مجملها أخباراً سيئة، فى وقت سادت فيه التوقعات السيئة بالنسبة للمستقبل، وأدى ذلك إلى التأثير بشكل أو بآخر على التوزيع بالنسبة للصحف المطبوعة والمتابعة للمواقع الألكترونية والمشاهدات للفضائيات.
شهدت صفحات الرأى خلال الشهور الثلاثة الماضية مقالات كثيرة، تبشر بـ«إندثار» الصحف المطبوعة، ووتوضح مدى تخوف الكتاب على مستقبلها، تأثراً بما يحدث فى العالم من حولنا من إلغاء النسخ الورقية لعدد من الصحف العالمية، بشكل إعتبروه مؤشراً على إنتهاء عصر الصحف الورقية، وبلا شك فإن مخاوفهم لها إعتبارها، ولكنها تتجاهل قصور منظومة الصحافة الورقية فى مصر من ناحية المحتوى والطباعة والتوزيع، وكذلك تأثير المناخ العام على سوق الصحف المطبوعة.
يتجاهل البعض حقيقة أن المواطن انصرف عن جميع أنواع وسائل الإعلام سواءًا المطبوعة أو الألكترونية أو حتى نشرات الأخبار التلفزيونية وبرامج التوك شو، وربما يرجع ذلك التجاهل إلى وجود مؤشرات ملموسة بالنسبة للصحف الورقية ممثلة فى نسب التوزيع، وهى غير متوافرة بالنسبة للمواقع الألكترونية، والتى يتم التلاعب فى عدد الزيارات الحقيقية لها عن طريق شراء الزيارات لرفع ترتيب المواقع على مؤشر أليكسا، أما القنوات الفضائية، فلم يعد المواطن يتابع مقدمى البرامج المعروفين بنفس المعدل السابق.
ويجب أن نشير إلى أن حالة الإحباط لدى المواطنين نتيجة إرتفاع الأسعار والغلاء وإرتفاع سعر الدولار أثرت بالسلب على الحالة المعنوية للقراء فعزفوا عن القراءة، كما أن عمليات الإستحواذ على وسائل الإعلام من جانب بعض رجال الأعمال المؤيدين للرئيس ستؤدى لزيادة حالة العزوف عن وسائل الإعلام، لعدم وجود متنفس يعبر عن هموم المواطنين وإهتماماتهم، بعدما أصحبت معظم وسائل الإعلام تعزف على نفس الوتر.
يتشابه محتوى الصحف الورقية، لا فرق بين حكومية وخاصة، وأحياناً تتطابق «المانشيتات» نصاً أو معنى بين عدة صحف مختلفة فى ذات اليوم، وأصبح المواطن الذى كان فى السابق يشترى صحيفتين أحدهما حكومية والأخرى خاصة، إذا إشترى الآن فصحيفة واحدة فقط، فجميعهم يعرضون ذات الأخبار، وإذا دققت النظر فستجد أن نفس الموضوعات مكررة فى كل الصحف بنسبة لا تقل عن 75%، والفارق الوحيد هو أسلوب توزيعها داخل صفحات العدد، وهو ما يعنى إما أن إدارة كل الصحف واحدة أو أن جميع إدارات الصحف إهتماماتها واحدة.
تعمد كثير من الصحف إلى وضع الأخبار الرسمية كمانشيتات رئيسية، مثل خطاب الرئيس الذى سبق وشاهده المهتمين به بثاً مباشراً على الفضائيات، وعزف عن سماعه غير المهتمين، فى حين أن هناك أخباراً أكثر أهمية للتوزيع، مثلاً «رفع الأسعار أو فرض ضرائب جديدة» يتم وضعها فى الجزء الأسفل من الصفحة الذى لا يراه القارئ عند بائع الصحف، ولا يرى سوى مانشيتات موحدة بالأخبار الرسمية الموجودة فى كل الصحف، بشكل يجعلنا نقول أن المانشيت أصبح لا يتحدد بأهمية الخبر، وإنما برسمية الخبر.
ونستطيع القول أنه عندما غابت إهتمامات القارئ عن إدارة التحرير، غاب القارئ عن الصحف، وعزف عن شرائها، وعندما لم يجد القارئ نفسه فى الصحف إنصرف عنها، ويجب الإشارة إلى أنه لا توجد حالياً إدارة لأى صحيفة تهتم بدراسة السوق لمعرفة رغبات القراء حتى تلبيها، بل إن جميع إدارات الصحف تجمع الأخبار ثم تختار ما يناسبها منها لا ما يريده القارئ، وحتى من يخطط للأخبار فإنما يخطط ليتميز عن الصحف المنافسة بموضوعات مختلفة، وليس ما يرغبه القارئ، بالتأكيد رغبة القارئ تحتاج دراسة باتجاهات السوق.
ويمكن القول إن أبسط قواعد السوق غائبة عن الصحف الورقية، وهى إختيار الجمهور المستهدف، كأن الصحف الجديدة كل ما يعنيها هو أن تجتذب قراء الصحف المنافسة دون أن يكون لديها فى الحقيقة ما يميزها عن تلك الصحف القائمة، فلا نجد مثلاً صحف توجه صفحة يومية لربات المنازل أو السيدة العاملة أو الأطفال أو الشباب أو لأصحاب المعاشات أو مواطنى المحافظات، ولكن ما يحدث أنه يتم استهداف بعض القطاعات بصفحة أسبوعية تقدم موضوعات ليست بالعمق المطلوب، ولا شك أن كل قطاع من هذه القطاعات يمثل سوقاً يمكن أن يرفع مبيعات أى صحيفة تستهدفه.
ويعتبر ما يحدث حالياً من إغلاق الصحف الورقية، هو نوع من تصحيح أوضاع خاطئة، نتيجة العشوائية فى تقديم صحف كثيرة خلال العشر سنوات الماضية، كأن حاجة السوق للصحف يحددها قرار منفرد لرجل أعمال، ولكن الطبيعى أن يفرز السوق الغث من السمين، والقوى يستمر فى النهاية ليستحوذ على الحصة التى يستحقها من السوق.
دخلت صحف خاصة عديدة فى المجال، ، بعد نجاح تجربة «المصرى اليوم»، وكلها تحاول تكرار أو بمعنى أدق تقليد تجربة المصرى اليوم، ولم تقدم أياً من تلك الصحف محتوى يميزها عن المصرى اليوم أو أى صحيفة موجودة، فجمهور كل الصحف الجديدة كان خصماً من الصحف الموجودة، ولم تجتذب أى صحيفة جديدة أى قارئ جديد، فلم تتخصص أياً من تلك الصحف فى قطاعات محددة لجذب قراء جدد، بل لم تكن لأى صحيفة لونها الخاص بها الذى يجذب لها قارئها الخاص، حتى أن الصحف الحكومية تفوقت عليها بتقديم لونها الخاص إلى جانب أنها صحف الحكومة، فمثلاً صحيفة الجمهورية تفوقت فى خدمة قطاع التعليم، والأهرام يطلبها الباحثون عن العمل، ولكن لا توجد من الصحف الجديدة باستثناء المصرى اليوم التى تميزت فى الرياضة أى صحيفة تخصصت فى التركيز فى تقديم خدماتها لجمهور محدد، ونحن هنا لا نطالب بأن تكف الصحف عن تقديم الأخبار العامة الهامة، ولكن إلى جانب ذلك يجب أن تتخصص فى تقديم أخبار تميزها لقطاعات محددة بشكل يومى.

دعنى أسألك هل يمكن أن تذهب لتأكل فى مطعم يقدم الوجبات باردة؟ بالطبع لا؟ فلماذا تطلبون من القارئ أن يقرأ نفس الأخبار التى قرأها أمس، وربما مساء أمس الأول، فلربما خبر يكون حدث فى الثانية عشر مساءاً بعد فوات وقت الطبعة الثانية، ليقدمه المحرر للنسخة الورقية صباح اليوم التالى ليراه القارئ فى الأسكندرية فى السادسة من صباحاً، ولكن بعد 30 ساعة من حدوث الخبر، وهو ذات الخبر الذى كتبه نفس المحرر فى الموقع الألكترونى من 30 ساعة وبنفس الصياغة غالباً، وإذا كنا كصناع صحف لا نحترم القارئ، ونقدم له المحتوى القديم، فكيف نطلب منه أن يحترمنا ويشترى صحفنا.
توجد بالتأكيد حلول بسيطة وسريعة جداً لحل مشكلة المحتوى القديم، بخلاف محاولة التميز فى الأخبار، فإذا كان الخبر من المفترض أن يجيب على 5 أسئلة معروفة، وهى من ماذا أين متى ولماذا، فإن الإجابة على سؤالين وهما ما يهم القارئ من هذا الخبر (ما هو تأثير الحدث على القارئ) و(كيف سيتم التنفيذ أو خطوات حدوثه) أو بمعنى آخر (التوفيق بين خلفية الخبر وآلية تنفيذ الحدث)، بالإضافة إلى الخلفية والسياق، وهو ما يمثل طرحاً لمنطقية الحدث من حيث التنفيذ ونتائجه على المواطن فى داخل الخبر، وذلك كفيل بخروج ذات الخبر عن عناوينه وموضوعه القديم، والذي يجيب فقط عن 5 أسئلة فقط، هذا إن أجاب الصحفى عنهم مجتمعين، وذلك كفيل بتغيير العناوين من تصريحات مجردة، ربما تكون كاذبة إلى صورة متكاملة للقارئ تغطى كامل إحتياجاته التى يرغب معرفتها عن الحدث، فمثلاً لو كان تصريحاً للرئيس عن بناء نصف مليون شقة، لماذا لا يلجأ الصحفى بعد كل ما سبق لأخذ رأى خبير إقتصادى؟، وما هى الآثار الإقتصادية التى يمكن أن تحدث نتيجة القرار، فربما يؤدى القرار إلى تكرار أزمة الرهن العقارى فى أمريكا التى أدت إلى الأزمة المالية العالمية.
دعونا نتحدث الآن عن الطباعة، فأوراق الصحيفة التى تذهب للمطبعة فى السادسة مساءاً ليجدها قارئ القاهرة فى يديه التاسعة مساءاً بينما تصل لمواطنى المحافظات فى السادسة صباح اليوم التالى على أفضل تقدير، كأن كل التطور الذى حدث فى سوق الطباعة، لا يستطيع حل المشكلة، رغم أن الحل فى منتهى البساطة وهو الإعتماد على المطابع الصغيرة، بدلاً من مطبعة كبيرة تطبع فى القاهرة ويتم التوزيع منها لجميع أنحاء الجمهورية، فتكون هناك مطبعة صغيرة فى الأسكندرية وأخرى فى الصعيد وأخرى لمنطقة القناة تتكفل بطباعة عدد النسخ اللازمة لتلك القطاعات، لتتحقق العدالة بين القاهرة والمحافظات ويقرأ الجميع نفس الصحف فى نفس التوقيت مساء نفس يوم الحدث، وليس أن يقرأ مواطنو القاهرة أخبار نفس اليوم، بينما يقرأ مواطنو المحافظات الأخبار «البايتة» أو القديمة، وبالتأكيد سيؤدى ذلك لرواج فى سوق الصحف، وتخفيض التكلفة عن طريق تخفيض تكلفة النقل.
والأن جاء دور الحديث عن التوزيع، فتلك الشبكة القديمة للتوزيع التى لم يتم تحديثها منذ عشرات السنوات فى المحافظات لم تعد قادرة على القيام بمهامها، وأعرف قرى يزيد سكانها عن 60 ألف نسمة لا تصلها الصحف، ولا شك أنه لو تم تحديث شبكة التوزيع وإضافة موزعين جدد فى تلك القرى سواءًا بوصول وسائل النقل إليها بالصحف، أو دفع محفزات نقدية للموزعين الجديد فينقلوا الصحف بمعرفتهم، فإن ذلك سيؤدى بلا شك إلى رفع عدد القراء ووجود سوق جديد يماثل حجم السوق الموجود حالياً الذى أصابه الفتور تجاه الصحف المطبوعة، بينما المجتمع الجديد متشوق للصحف التى لا يشتريها إلا كلما ذهب إلى المدينة لقضاء بعض حاجياته.
يتجاهل الذين يبشرونا بإنقراض الصحافة خلال أعوام قليلة، أن نسبة الأمية فى مصر تصل إلى 40% حسب تصريح منسوب للكاتب الصحفى حلمى النمنم، وزير الثقافة، وإن نجحنا فى تخفيض تلك النسبة، فبالتأكيد إن وسيلتهم فى معرفة الأخبار ستكون الصحف الورقية أكثر من المواقع الإخبارية، وهذا هو أول فرق بين الوضع فى بلدنا وبين التجارب التى ينقل الزملاء الكتاب عنها، ولا أعتقد أن هناك مجالاً للمقارنة، كما أن هناك حالتين أحدهما موضوعية وهى كون الصحف الورقية تعتبر وثيقة يصعب التغيير فيها عكس الصحف الألكترونية، والحالة الأخرى غير موضوعية وهى مصرية خالصة، وهى قيام المصريين بوضع الصحف القديمة على مائدة الطعام ولن يحدث ذلك إن إنقرضت الصحف.
نحن لا ننكر أن هناك تراجع فى مبيعات الصحف، ، فبحسب ما ذكره مجدى الحفناوى، مدير توزيع المصرى اليوم، فإن مجموع ما تقوم جميع الصحف فى مصر الآن بتوزيعه أقل مما كانت توزعه صحيفة واحدة إبان ثورة 25 يناير عندما كان هناك أمل فى المستقبل لدى الناس، ولكن هذا الإنهيار فى توزيع الصحف هو مرآة لحالة المزاج العام المحبط للمواطنين المصريين، ويجب على الصحف أن تنشر أخباراً تحمل أملاً فى المستقبل لتحسين هذا المزاج العام.

ستظل الصحف المطبوعة موجودة وإن إنخفض توزيعها أو أغلق بعضها، طالما أن المواطن المصرى مازال يعتمد على حمل النقود فى جيبه بدلاً من بطاقات الإئتمان كما يحدث فى الخارج، وقتها يمكن للمصرى أن يشترى محتوى ألكترونى كما يحدث فى الخارج، وإن حدث فيمكن أن نعتبر وقتها أن ما يسرى على الصحافة الورقية فى الغرب سيسرى عندنا فى مصر.

نقلا عن مدونة الصحفي حمدي قاسم
الرابط:
http://hamdyk.blogspot.com.eg/2016/07/1.html