الجمعة 15 نوفمبر 2024
|
---|
عصفور الحب العائد
إستيقظت من نومي في صباح يوم مشرق من أيام الربيع على صوت نقر متقطع على زجاج النافذة فقمت مسرعاً وأزحت الستار الشفاف المسدل لأستطلع الأمر، وإذ بي أما مفاجأة لم أتصورها!! إنه عصفوري الكناريا الهارب من قفصه منذ أيام، فهممت بالإمساك به بحذر شديد كي لا يفر هارباً مرة أخرى، ففتحت النافذة وابتعدت قليلاً حتى لا يفزع.
ولكن المفاجأة الأخرى .. إذ وجدته يندفع نحوي بجناحيه ذوي الأوان البديعة ليستقر على كتفي، وأخذ ينقر بمنقاره الصغير، ويرفرف بجناحيه مع عدة قفزات ولفه ودورانه حول نفسه كأنه يرقص رقصة تعبيرية رائعة، وبدا كراقص باليه متمرس في فرقة البلشوي الروسية العالمية، وأدركت أن في الأمر عجب رغم يقيني بأن زمن العجائب قد ذهب وولّى.
وقلت في نفسي كيف ولّى زمن العجائب، ونحن نعيش وبين أيدينا أجهزة الكمبيوتر والإنترنت الذي أتى إلينا بالغرائب والعجائب التي حيرت العقول وأخذت الألباب، وهنا تصورت لو أن هذا العصفور العائد تحدث إلي، وتحدثت إليه. إذن فلنجرب ونرى.
مددت له يدي فإذا به يقفز قفزة رشيقة من فوق كتفي ليقف على يدي، وشعرت بأنه يشعر بما جال في رأسي بفكرة التجربة، وعلى الفور بادرته بسؤال في مستهل التجربة اللامعقولة:
لماذا قررت الفرار من قفصك؟
هل لاقيت معاملة غير لائقة؟
ألم آتي إليك كل صباح بطعامك المفضل؟
ألم تلق العناية والرعاية؟ ألم تجد الحب؟
أم كنت تبحث عن الحرية والانطلاق نحو الفضاء الفسيح، وقد ضاق بك الأسر؟
أم أنك سئمت من وليفتك التي مكثت معها مدة طويلة فذهبت لتبحث عن وليفة أخرى تمنحك الحب، وتجد معها السعادة؟
أسئلة كثيرة تبحث عن إجابات لتخرجني من حيرتي عن سبب فرارك تاركاً لنا لوعة الفراق والهجر .. ليتك تنطق!
وإذ بي أسمع صوتاً ينبعث منه مغايراً لتغريده المعتاد والمألوف لدي، ولكنه كلاماً مفسراً ومفهوم. إندهشت .. هل تحققت المعجزة؟ هل هو وهم؟
وقبل أن تأخذني الدهشة إلى دهاليز الجنون، قلت في نفسي لا يهم هنا التحقق من عدمه، إنما المهم هنا هو أن التجربة أتت ثمارها، وعلي أن أعيشها كاملة، وها هو عصفوري يرد على أسئلتي الكثيرة قائلاً:
قبل أن أجيب على كل هذه الأسئلة، لي عتاب رقيق لاتهامك لي بنكران الجميل، وهذا ليس في طباعنا نحن معشر الطيور المغردة، وكيف نكون بهذه الصفة المقيتة وقد اتخذتمونا شعاراً للصفاء ورمزاً للحب والعشق، والمحبين، ودعاة السلام في عالمكم معشر الإنس.
والآن يا عزيزي بعد أن انتهيت من عتابي سأبدأ على الفوربفك اللغز الذي جعلك في حيرة من أمرك والسبب في فراري من القفص:
عزيزي وحبيبي، أنا لم أفر منك، ولم أفر من وليفتي، ولم أفر من أجل البحث عن الحريةكما ذكرت في مستهل حديثك معي، بل فررت من أجلك أنت .. نعم .. من أجلك أنت .. ألم أقل لك ألا تتعجب.
يبدو أن عصفوري العجيب قد قرأ في عيني الانبهار والتعجب مما جعلني أصل إلى اليقين بأنه مدرك تماماً لما يدور أمامه ومن حوله.
قال عصفوري العائد: "سأبدأ معك بيوم قد لا تتذكره، ولكني أذكر هذا اليوم تماماً، فقد قدمت لي طعاماً كما تعودت كل صباح، ولكن في هذا اليوم تحديداً أقتربت مني أكثر من أي مرة أخرى سابقة، ولم تداعبني، ونظرت إليك محدقاً ببصري لينقلب بصري إلى بصيرة، أحسستك تماماً بها، ووجدت في عينيك حزناً وشجناً لم ألاحظه من قبل، وحزنت لحزنك هذا، وأخذت أفكر مليا".
ويحاول عصفوري العائد أن يأتي إلي بالأدلة والبراهين ليثبت لي صدقه فيما يقول ليشعرني بحقيقة الحدث، وأنه واقع وليس درباً من الخيال والوهم.
ويعود فيقول: "هل تذكر ذاك اليوم الذي أصابني فيه الهزال، وأخذت ركناً في قفصي، ووضعت منقاري بين ريش صدري المنتفش، ولم أعد كعادتي في حركة ومرح حيث فقدت رشاقتي المعتادة، وقد رأيت في عينيك الشفقة علي، وظنك بأنني مريض، وفي حالة احتضار ثم الموت القريب".
فقلت له: هذا صحيح، ولكنك بعدها استرددت عاقيتك، وعدت كما كنت" .. فرد قائلاً:"أعرفك يا عزيزي بما لاتعرفه وهو أن هذه الحالة كانت بسبب تعاطفي معك، ومشاركتي لك في شئونك التي بدت عليك، منذ هذه اللحظة عقدت العزم على إخراجك من هذه الحالة، ولكن كيف الوصول إلى تشخيص حالتك .. إلى أن هداني تفكيري إلى حل اللغز المحير".
ثم وقف عصفوري العائد ولاذ بصمت طويل وكأنه يفكر، ولكنه في الحقيقة كان صمته هذا ماهو إلا قراءة لما يدور بخلدي وتفكيري وتعجبي من أن هذا العصفور يستطيع أن يفكر ويشعر ويبحث عن حلول، وبادرني بقوله: "ألم أقل لك من قبل ألا تتعجب او تندهش مما ترى وتسمع" .. وأراد مرة أخرى أن يلقي في قلبي الطمأنينة، وقال عصفوري العائد:"ألم تقرأ في القرآن الكريم عن هذهذ سليمان الحكيم، وكيف كان يفكر، وكيف وصل إلى حقيقة الإيمان، واستطاع أن يصل إلى نبي الله بكلام مفهوم ومرتب عن ملكة سبأ، وقد أحاطه الله بما لم يحط به النبي سليمان، حتى تعلموا يا بني البشر أن للطيور عالمهم الخاص، وقد منحهم ربهم بكثير من النعم مثلكم".
وبعد هذه العبارات الإيمانية الموثقة يعود عصفوري ليكمل حديثه العجيب، وقال:"إن الحل بدا بأول الخيط، وكان أوله هو الحب المفقود، نعم الحب المفقود الذي كنت تبحث عنه في كل الدنيا، بحثت عنه في دنياك فلم تجده، وبحثت عنه في دنيا الآخرين فلم تجده حتى أصابك الإحباط واليأس، لذا قررت أن أساعدك بكل السبل لإخراجك من إحباطك وشجونك حتى تعود كما كنت دائماً من تفاؤل وأمل في غد مشرق، ولكن كيف السبيل وأنا حبيس هذه القضبان؟ إذاً لابد أن أتحين الفرصة حتى أستطيع أن أخرج إلى الفضاء لأبدأ مهمتي الإنسانية، والتي كان دافعها الأول حبي لك إلى أن حانت الفرصة الذهبية حين تركت باب القفص معلق دون أن تدري فانطلقت مسرعاً إلى الرحاب الواسعة، وشعرت بالخوف مما رأيت في بداية رحلتي هذه إلى السماء الممتدة إلى ما لانهاية، وتلك الأسراب المختلفة من الطيور، ووجدت طيوراً تتسم بالوداعة وأخرى تتسم بالشراسة، مثل الصقور التي طاردتني تريد إلتهامي إلا أن شاء القدر لي بالنجاة والإفلات منها. كانت البداية شاقة، ومليئة بالأخطار المحدقة ولكن لا يهم طالما أن المهمة من أجل الحب ورد الجميل، فغلبني حماسي الشديد حتى أنساني ما ألم بي من إجهاد وإرهاق بسبب التحليق المتواصل، آخذاً في الهبوط تارة والصعود تارة أخرى، وأنا أرى أمامي ما لم أره من قبل، فقد أدهشني هذا الكم الهائل من البشر، وهذا الازدحام الرهيب من الناس والسيارات التي تجوب الشوارع، وهذا التلوث الضار المتصاعد من العوادم، حتى شعرت أنني أختنق، وعند اقترابي من وجوه الناس لمست فيها عيون فقدت الإحساس بالجمال، وتساوى عندها القبيح بالجميل. رأيت أناس يحملون قلوباً لا تعرف الحب، تلاشت تماما الرومانسية في معاملتهم فيما بينهم أما المادية الطاغية التي أدت بدورها إلى الأنانية وحب الذات، وقبل أن تتهمني بالتشآؤم أقول لك أن هناك قلة قليلة هي التي نأت بنفسها عن هذه الدوامة الطاحنة، وعاشوا بقلوب تملؤها الرحمة والرقة في تعاملها، ليس مع البشر فحسب، ولكن طالت هذه الرقة الحيوانات والطيور والأزهار، فكانوا سيمفونية كونية شجية أطربت الملائكة في السماء، وأسوق إليك حادثة حدثت لي أثناء رحلتي الشاقة:
فعندما غربت الشمس، وبدأ الليل آويت إلى شجرة وارفة لأخذ قسطاً من الراحة والنوم، وفي هذه الأثناء صحوت على صوت مفزع، وكان بجانبي عصفور يغط في نوم عميق، وإذ به يسقط على الأرض بعد سماع هذا الصوت المفزع، ونظرت إلى الأسفل فوجدت بعض الصبية بأيديهم بندقية صيد، وقد أصابوا هذا العصفور المسكين، وانقضوا عليه بمنتهى القسوة وعدم الرحمة، ترى من أين أتوا بهذه القسوة وهذا العنف؟ إلا أنني رأيت طفلاً صغيراً ماراً بجوارهم فأخذ في تعنيفهم بشدة معرباً عن استياءه من هذا الفعل القاسي، وقد أبدى تعاطفه مع هذا العصفور المسكين. أظنك يا صديقي تتفق معي أن هذه الواقعة جاءت لتكون وثيقة دامغة على صحة ما قلت آنفا،ً وأوشكت على السقوط في براثن الإحباط واليأس، إلا أنني تذكرت على الفور الآية الكريمة التي تقول: (لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون). وكانت هذه الآية هي العصا السحرية التي أنقذتني من السقوط إلى هاوية اليأس والإحباط، وفكرت ملياً في معنى كلمة الحب التي لم أجدها في هذا المناخ المتردي والملوث، وأدركت أن الحب هذا ما هو إلا منة ونعمة من الله يهبها لعباده أصحاب القلوب الرقيقة فقط دون سواهم، وأخيراً وجدت ضالتي المنشودة، والتي كنت أعتقد في لحظة يأس وإحباط أنها مفقودة، وقررت يا صديقي الحبيب أن أبدأ رحلة العودة إلى أحضانك الدافئة، وحبك الصافي الفياض، علماً بأنني على إدراك تام بأن ثمن العودة هو الحبس مرة أخرى في هذا القفص المعلق على جدار الشرفة، وأتيت إليك بكامل إرادتي لأقدم لك هديتي، وهديتي هي الحكمة البالغة من الله في شئون عباده وكونه الفسيح، وفي خلقه قاطبة، وأن الحب لم يفقد كما تصورت لأنه موجود بين يديك وأمامك، ألم أكن أنا حبيب لك؟ ألم نتبادل سوياً حباً وحناناً؟
إن الحب يا صديقي هو بسمة بريئة تجدها على شفاه طفل أو طفلة.
الحب في زهرة ترعاها كل صباح وتبادلك الحب والود.
الحب أن تكون سبباً في سعادة الآخرين.
الحب أن تساهم في إعمار هذا الكون بما تستطيع.
الحب أن ترفع وجهك إلى السماء مبتهلاً داعياً الله بكل خير.
بهذا تصل إلى مراتب الوحي في السماء. هذه هي هديتي لك في عيد الحب من رحلة العودة.
- قرأت 4808 مرات