الخميس 26 ديسمبر 2024
|
---|
إشراقات الضحـى - الجزء الثالث
وقد يقول قائل ، وما هي الحكمة في أنه تعالى في السورة " سورة الليل " قدم ذكر الليل ، وفي هذه السورة أخره ؟
ويجيب عن هذا الإمام فخر الدين الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني الأصل فيقول فيه وجوه :
أحدها : أنه بالليل والنهار تنتظم مصالح المكلفين ، فالليل له فضيلة السبق لقوله : " وجعل الظلمات والنور " الأنعام : 1 وللنهار فضيلة النور ، بل الليل كالدنيا والنهار كالآخرة ، فلما كان لكل واحد فضيلة ليست للآخر ، لا جرم قدم هذا على ذاك تارة ، وذاك على هذا أخرى ، ونظيره أنه تعالى قدم السجود على الركوع في قوله : " واسجدي واركعي" آل عمران : 43 ثم قدم الركوع على السجود في قوله :" اركعوا واسجدوا " الحج : 77 .
وثانيها : أنه تعالى قدم الليل على النهار في سورة أبي بكر ; لأن أبا بكر سبقه كفر ، وههنا قدم الضحى لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سبقه ذنب. التفسير الكبير - المجلد 16.
وقوله :" ما ودعك ربك " قرئ بالتشديد من توديع المفارق . وقرئ : " ما ودعك " ، بالتخفيف من الودع ، أي : من الترك ، كما قال أبو الأسود :
ليت شعري عن خليل ما الذي نما له في الحب حتى ودعه
أي تركه ، وقول الآخر :
وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر
أي تركوهم فرائس السيوف .
قال أبو حيان : والتوديع مبالغة في الودع ; لأن من ودعك مفارقا ، فقد بالغ في تركك ، والقراءة الأولى أشهر وأولى ; لأن استعمال ودع بمعنى ترك قليل .
وقال القرطبي وقال المبرد : لا يكادون يقولون : ودع ولا وذر ; لضعف الواو إذا قدمت واستغنوا عنها بترك ، ويدل على قول المبرد سقوط الواو في المضارع ، فتقول في مضارع ودع يدع كيزن ويهب ويرث ، من وزن ووهب وورث ، وتقول في الأمر : دع وزن ، وهب ، أما ذر بمعنى " أترك " ، فلم يأت منه الماضي ، وجاء المضارع : يذرهم ، والأمر : ذرهم . فترجحت قراءة الجمهور بالتشديد من : " ودعك " من التوديع .
وقد ذكرنا هذا الترجيح ; لأن ودع بمعنى ترك فيها شدة وشبه جفوة وقطيعة ، وهذا لا يليق بمقام المصطفى " صلى الله عليه وسلم " عند ربه ، أما الموادعة والوداع ، فقد يكون مع المودة والصلة ، كما يكون بين المحبين عند الافتراق ، فهو وإن وادعه بجسمه فإنه لم يوادعه بحبه وعطفه ، والسؤال عنه وهو ما يتناسب مع قوله تعالى " وما قلى " .
وقد جاء في صلح الحديبية قوله " صلي الله عليه وسلم " لسيدنا عمر بن الخطاب : " أنا عبد الله ورسوله " ، أي : تحت رحمته وفي رعايته " أضواء البيان في إيضاح القران بالقران – تفسير صورة الضحى .
والآن هل تشعر أنك مازلت في حاجة لقراءة جواب القسم من جديد " ما ودعك ربك وما قلى " إنها لمسة الحنان الآولي التي مسحت كل الآلام عن قلب رسول الله ، لتسري عن فؤاده " صلي الله عليه وسلم " فتكشف عنه الهم والغم الذي أصابه " ما ودعك ربك وما قلى " فأبشر ، وابتهج ، وافرح ، واسعد ، وابتسم ، فأنت في القلب والعين .
ما ودعك ربك وما قلى .. أنت في كنف الله فلا تحزن ، وفي معيته فلا تخف ، وفي حفظه فلا تبتأس ، فهو العاصم جل في علاه : " والله يعصمك من الناس " سورة المائدة آيه 67 ، فلا تخف : " إنك أنت الأعلى " سورة طه 68 الآيه .
وأي فرحة هذه ، حين يضم الله رسوله اليه ، فيجمع بينه وبين رسول الله في لفظ واحد ، لا يزيد عدد أحرفه عن ثلاث حروف لا أكثر ولا أقل " ربك " ليثبت فؤاده فيمنحه دفعة قوية لإستكمال مسيرته في مجال الدعوة الي الله فلا يضيق صدره بعدها أبدا .
يقول الدكتور محمود أحمد الزين " وفي كون النفي واقعاً على فعلين وهما في تقدير النكرة مزيدا من القوة لهذا المعنى كأنه قيل " ما كان من الله لك توديع ولا قلى " والنكرة في سياق النفي تفيد عموم نفي الجنس أي ما كان من هذين الأمرين شيء قليل ولا كثير ، وفي التصريح بكاف الخطاب " ما ودعك " في الفعل المنفي تقوية أخرى للمقصود حيث يفيد توجيه الخطاب بنفي الأمر المخوف إلى رسول الله " صلى الله عليه وسلم " بأعرف المعارف وهو الضمير الخاص به " صلى الله عليه وسلم " وفي هذا الخطاب إشعار بقربه " صلى الله عليه وسلم " ، ممن يخاطبه ، وهو ربه سبحانه وتعالى ، كما هو شأن المخاطبة التي يزول معها كل حجاب وكل بعد مهما كان " تفسير سورة الضحى .
بينما يقول ابن المختار الشنقيطي : والذي يظهر من لطيف الخطاب ورقيق الإيناس ومداخل اللطف ، أن الموادعة تشعر بالوفاء والود ، فأبرزت فيها كاف الخطاب ، أي : لم تتأت موادعتك وأنت الحبيب ، والمصطفى المقرب ، أما قوله : " قلى " : ففيها معنى البغض ، فلم يناسب إبرازها إمعانا في إبعاد قصده بشيء من هذا المعنى ، كما تقول لعزيز عليك : لقد أكرمتك وما أهنت ، لقد قربتك وما أبعدت ، كراهية أن تنطق بإهانته وكراهيته ، أو تصرح بها في حقه ، وقد جاء في السيرة ما يشهد لهذا المعنى ، ويثبت دوام موالاته سبحانه لحبيبه ، وعنايته به وحفظه له ومن ذلك حرص عمه أبو طالب عليه حيث أنشد قائلا:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
وذكر ابن هشام في رعاية عمه له ، أنه كان إذا جن الليل وأرادوا أن يناموا ، تركه مع أولاده ينامون ، حتى إذا أخذ كل مضجعه ، عمد عمه إلى واحد من أبنائه ، فأقامه وأتى بالنبي " صلى الله عليه وسلم " ينام موضعه ، وذهب بولده لينام مكان النبي " صلى الله عليه وسلم "، حتى إذا كان هناك من يريد به سوءا فرأى مكانه في أول الليل ، ثم جاء من يريده بسوء وقع السوء بابنه ، وسلم محمد " صلى الله عليه وسلم " وهو نفسه ما فعله سيدنا أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عند الخروج إلى الهجرة في طريقهما إلى الغار ، فكان - رضي الله عنه - تارة يمشي أمامه " صلى الله عليه وسلم" ، وتارة يمشي وراءه ، فسأله " صلى الله عليه وسلم " عن ذلك ، فقال : " أذكر الرصيد فأكون أمامك ، وأذكر الطلب فأكون وراءك ، فقال : " أتريد لو كان سوء يكون بك يا أبا بكر ؟ " قال : بلى ، فداك أبي وأمي يا رسول الله ، ثم قال : إن أهلك أهلك وحدي ، وإن تهلك تهلك معك الدعوة " ، فذاك عمه في جاهلية وليس على دينه - صلى الله عليه وسلم - وهذا أبو بكر الصديق " رضي الله عنه " بعد الإسلام ، " أضواء البيان 557
يقول الدكتور محمود أحمد الزين " ومع أن السورة في مطلعها مبنية بناءً قوياً مما يستدعي أن يكون الفاعل مقدماً كأن يقال :"ربك ما ودعك " لكن جاء الفعل مقدماً لأنه هو المقصود الأهم في هذه المناسبة مناسبة تطييب قلب النبي " صلى الله عليه وسلم " من آثار خوف التوديع والقلى مع أن المخاطب " صلى الله عليه وسلم " يعلم أن هذا النفي لا يكون إلا من الله تعالى.
وللآخرة خير لك من الأولى :
في سورة الليل وهي السورة السابقة لسورتنا هذه يقول سبحانه مخاطبا رسول الله " صلي الله عليه وسلم " إذ يقول " وإنا لنا للآخرة والأولي " وهو دليل ولا شك علي أنه مالك الآخرة ومالك الأولي ، فلا يضره ضلال من ضل ، ولا تنفعه هداية من إهتدي، ومع هذا يختار الله لرسوله الأخرة على الأولي ، وهي بشارة ربانية لطمأنة قلب رسول الله علي مستقبله .
يقول الدكتور محمود الزين " فهذا الذي كان يخشاه من الترك ، صرحت الآيتان الأوليان بنفي حصوله فيما مضى حين تأخر الوحي عنه " صلى الله عليه وسلم " ثم جاءت هذه الآية متضمنة أنه لن يكون مدى الحياة الدنيا ولن يكون في الآخرة وذلك لأمرين أولهما : أن الوعد بالإحسان في المستقبل يعني استمرار الرضا وثانيهما : أنه بدون ذلك لا تكون الآخرة خيراً له من الدنيا أي لو تركه ربه لم تكن الآخرة خيراً له من الدنيا وهذا الوعد مؤكد باللام في " وللآخرة " ومؤكد بالعطف على جملتي المقسم عليه " ما ودعك ربك وما قلى " كما أنه مؤكد بقوله " لك " لأن الآخرة نفسها خير من الدنيا وزيادة ، و" لك " أفادت خصوصية له في ذلك صلى الله عليه وسلم فخوطب بها تكريماً .
والتعبير بالجملة الاسمية " وللآخرة خير" يعني أن هذا الأمر مطلق عن الزمان بمعنى أنه لم يحدث في هذه المناسبة بل هو قائم فيما مضى وفيما يأتي وفيما هو كائن بخلاف ما لو كان التعبير بالفعل الماضي أو المضارع " كانت الآخرة خيراً لك من الأولى " أو " جعلت الآخرة خيراً لك " أو " ستكون الآخرة خيراً لك " إذ الماضي يثبت حصول ذلك في الماضي ويسكت عن المستقبل ، والمضارع يثبت الحصول في المستقبل دون الماضي والجملة الاسمية تثبته مطلقاً عن الزمان ، وكان يمكن حذف المفضل عليه وهو من " الأولى " فإذا قيل " وللآخرة خير لك " فهم المقصود ولكن تكون الفائدة أقل إذ يكون المعنى " وللآخرة خير لك من ذلك " وهو عدم التوديع والقلى ، وبذلك التصريح صار المعنى سيعطيك الخير في الدارين وهو في الآخرة أكثر ." تفسير سورة الضحى - الزين
وللآخرة خير لك من الأولى :
يقول الإمام الفخر : لم يقل " خير لكم " لأنه كان في جماعته من كانت الآخرة شرا له ، فلو أنه سبحانه عمم لكان كذبا ، ولو خصص المطيعين بالذكر لافتضح المذنبون والمنافقون ، ولهذا السبب قال موسى عليه السلام : " كلا إن معي ربي سيهدين " وأما محمد " صلى الله عليه وسلم " فالذي كان معه لما كان من أهل السعادة قطعا ، لا جرم قال :" إن الله معنا " التوبة : 40 ، إذ لم يكن ثم إلا نبي وصديق " إذ هما في الغار ".
" فما أعد الله لك في الآخرة من المقام المحمود والحوض المورود والخير الموعود ، خير مما أعجبك في الدنيا ، وقيل وجه إتصاله بما قبله أنه لما كان في ضمن التوديع والقلي ، أن الله مواصلك بالوحي اليك ، وأنك حبيب الله ولا تري كرامة أعظم من ذلك ، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك لتقدمه علي الأنبياء وشهادة أمته عليه وغير ذلك " تفسير القرآن الجليل ، ص 718
وحسبه " صلى الله عليه وسلم " ما أخرجه الإمام الترمزي بسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما " أنه " صلى الله عليه وسلم " حبيب الله ولا فخر وحامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر وأول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله له فيدخلها بصحبة فقراء المؤمنين ولا فخر وأنه هو أكرم الأولين والآخرين ولا فخر "
وروى عقبة بن عامر ، قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم " : إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه من مقامي هذا وإني لست أخشي عليكم أن تشركوا ولكن أخشي عليكم الدنيا أن تنافسوها " متفق عليه.
وقوله فرط بفتح الفاء والراء .. الفرط هو الذي يسبق الركب الي المنزل ليهيئه ويوفر فيه ما لابد له من زاد ومأوى .
وللأخرة خير لك من الأولى .. إنها كلمات إستقرت في وجدان رسول الله الي أن لقي ربه الكريم ، وليس أدل علي ذلك ما رواه لنا سيدنا أنس ابن مالك ، وشاهده الفاروق عمر بن الخطاب ، حين رأي رسول الله ، وهو علي سرير مضجع مزمل بشريط ، وتحت رأسه وسادة حشوها ليف ، فدخل عليه نفر من الصحابة ، ودخل سيدنا عمر فانحرف النبي إنحرافة ظهر فيها جنبه " صلى الله عليه وسلم " وقد أثر الشريط في جنبه الشريف ، فبكي عمر ، فتعجب النبي وتسائل ما الذي يبكيك يا عمر ؟ فقال عمر : والله ما أبكي إلآ لعلمي أنك أكرم علي ربك من كسري وقيصر ، ويعيشان في الدنيا فيما يعيشان فيه ، وأنت يا رسول الله في المكان الذي أراك ، فقال النبي : أما ترضي أن يكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ، فإنه كذلك " البداية والنهايه ص 46 .
وأخرج الترمزي في الشمائل عن أنس قال : " حج رسول الله على رحل رث عليه قطيفة لاتساوي أربعة دراهم فقال : " اللهم أجعله حجا لا رياء فيه ولا سمعه " .
وكان من دعائه الشريف : " اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين " صلى الله عليه وسلم .
ومن يتتبع حياة رسول الله وأصحابه من بعده سيجد أن الجميع قد رضي بإختيار الله لرسوله " فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم " 8 الحجرات .
وللأخرة خير لك من الأولى .. كما أنها تحمل وعدا إلهي للنبي بالخير ، ووعده حق لا يتخلف على الإطلاق يقول سبحانه وتعالي " إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور" 33 لقمان ، كما تحمل وعيدا للمشركين وغيرهم ، من الذين قالوا : " إن هي الآ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين " سورة المؤمنون 37.
يقول العلامة شيخ الإسلام إبراهيم البيجوري صاحب شرح البيجوري علي الجوهرة المسمي تحفة المريد علي جوهرة التوحيد : والخلف في الوعد نقص يجب تنزيه الله عنه وهذا متفق عليه عند الأشاعرة والماتريدية ، أما الوعيد فيجوز الخلف فيه عند الأشاعرة لأن الخلف فيه لا يعد نقصا بل يعد كرما يمتدح به لقول الشاعر :
وإني إذا أوعدته أو وعدته .. .. لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فإذا قال سبحانه أنه سيعذب العاصي ثم تجاوز عن عذابه وعقابه فذلك محض فضل .. وإن قال أنه سيعذبه ثم أو قع العذاب فذلك محض عدل ، ولقوله صلى الله عليه وسلم " من وعده الله علي عمل ثوابا فهو منجز له ، ومن أوعده الله علي عمل عقابا فهو بالخيار ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له " ص 119 بتصرف
أقول وهذا الخلف في الوعيد إنما هو من نصيب المسلم ، ومن نصيب كل من شهد أن لا إله إلآ الله وأن محمدا رسول الله حقا وصدقا .. لأنه سبحانه وتعالي يغفر الذنوب جميعا إلآ أن يشرك به ، وهذا خاص به سبحانه وتعالي ، أما بالنسبة لنا نحن البشر ، فالأمر يختلف تماما لأن الإنسان قد يعد أو يتوعد ظلما أو عدلا ، فإذا وعد بحق ثم أخلف وعده ، يهوي به الخلف الي دائرة النفاق لقوله " صلى الله عليه وسلم : آية المنافق ثلاثة ... وإذا وعد أخلف الحديث " ومعلوم أن المنافق مصيره الي الدرك الأسفل من النار .
أما وعيد البشر للبشر فإن تخلف فإنه يرقى بصاحبه الي دائرة الإحسان لقوله تعالي : " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " آل عمران .
ولو تحقق الوعيد وكان ظلما يقتص الله من الظالم للمظلوم ولذا فالعفو من شيم الكرام لقوله تعالي :" إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلآ الذين صبروا وما يلقاها إلآ ذو حظ عظيم " الشورى 35.
ولو أننا عقدنا مقارنة بسيطة بين هذه الآيات من سورة الضحى " المكية ، وبين قوله تعالي " إلآ تنصروه فقد نصره الله ، إذ أخرجه الذين كفروا ثاني إثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بحنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم " التوبة 40 ، وهي سورة مدنية ستكتشف حتما أن شخصية رسول الله صلي الله عليه وسلم قد تغيرت واختلفت كثيرا إذ أننا نجده هنا حزينا لفطور الوحي وإنقطاعه عنه لأيام قلائل ، بينما في سورة التوبة مدنية النزول ، سنجد ثباتا وجلدا وإصرارا قلما يتحلي به داعية ، لأنه إصرار نابع من نفس أمنت وأيقنت ، نفس تأكد لديها بما لا يدع مجالا للشك ، أن نصر الله قريب وإن تأخر ، وأن كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا هي السفلى ، وأن الله سبحانه وتعالي " عزيز حكيم " .
يقول الإمام فخر الدين الرازي : الآخرة خير لك من الأولى .. لأنه في الدنيا يطعن الكفار فيك ، أما في الآخرة فأجعل أمتك شهداء على الأمم ، وأجعلك شهيدا على الأنبياء ، ثم أجعل ذاتي شهيدا لك كما قال : " وكفى بالله شهيدا محمد رسول الله " الفتح : 29 ، 28.
قال الزمخشري : " فإن قلت : كيف اتصل قوله : " وللآخرة خير لك من الأولى " بما قبله " ما ودعك ربك وما قلى " ؟ قلت : لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك ، وأنك حبيب الله ، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ، ولا نعمة أجل منه ، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل ، وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء الله ورسله ، وشهادة أمته على سائر الأمم ، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته .
والأولى أن هذا موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الظفر ، ولما ادخر له من الثواب ، واللام في " وللآخرة " لام ابتداء أكدت مضمون الجملة ، وكذا في " ولسوف " على إضمار مبتدأ ، أي ولأنت سوف يعطيك ". التفسير الكبير المسمى البحر المحيط لأثير الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف الأندلسي تفسير صورة الضحى .
وللآخرة خير لك من الأولى :
يقول المختار الشنقيطي : " خيرا " تأتي مصدرا كقوله : " إن ترك خيرا الوصية " البقرة – 180 أي : مالا كثيرا ، وتأتي أفعل تفضيل محذوفة الهمزة ، وهي هنا أفعل تفضيل بدليل ذكر المقابل ، وذكر حرف " من " ، مما يدل على أنه سبحانه أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة ، ولكن ما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا ، ويوهم أن الآخرة خير له " صلى الله عليه وسلم " وحده من الأولى ، ولكن جاء النص على أنها خير للأبرار جميعا ، وهو قوله تعالى : " وما عند الله خير للأبرار" آل عمران 198
أما بيان الخيرية هنا لرسول الله " صلى الله عليه وسلم " : فهو المدلول عليه بأفعل التفضيل ، أي : لدلالته على اشتراك الأمرين في الوصف ، وزيادة أحدهما على الآخر ، فقد أشار إليه في هذه السورة والتي بعدها ، ففي هذه السورة قوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى ، أي : منذ ولادته ونشأته ، إذ تعهده الله سبحانه منذ صغره فصانه من دنس الشرك ، وطهره وشق صدره ونقاه ، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش .
فهذا عمه أبو طالب يقول عنه " صلي الله عليه وسلم " عند خطبته خديجة لزواجه بها ، فقال : " فتى لا يعادله فتى من قريش ، حلما وعقلا وخلقا ، إلا رجح عليه " وقوله " ووجدك ضالا فهدى ، ووجدك عائلا فأغنى " فهي نعم يعددها سبحانه وتعالي ، عليه وهي من أعظم خيرات الدنيا من صغره الي شبابه وكبره ، ثم إصطفائه بالرسالة وحفظه من الناس ، ثم نصرته علي الأمم ، وإظهار دينه وإعلاء كلمته .
ومن الناحية المعنوية ما جاء في سورة الشرح " ألم نشرح لك صدرك .. الآيات " سورة الشرح 1 – 4 .
أما خيرية الآخرة علي الأولى فعلى حد قوله " ولسوف يعطيك ربك فترضى " حيث جاء في السنة المشرفة بيان " المقام المحمود " وهو الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون ، كما في حديث الشفاعة العظمى حين يتخلى كل نبي ويقول :" نفسي نفسي" حتى يصلوا إلى النبي " صلى الله عليه وسلم " فيقول : أنا لها أنا لها " إلخ .
ومنها : الحوض المورود ، وما خصت به أمته " غرا محجلين ، يردون عليه الحوض " .
ومنها : الوسيلة ، وهي منزلة رفيعة عالية لا تنبغي إلا لعبد واحد ، كما في الحديث : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ، ثم صلوا على ، وسلوا الله ليا الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد ، وأرجو أن أكون أنا هو " وهو مما يؤكد أنها له وإلآ لما طلبها ولا ترجاها ولآ أمر بطلبها له . وهو بلا شك أحق بها من جميع الخلق ، إذ الخلق أفضلهم الرسل ، وهو " صلى الله عليه وسلم " مقدم عليهم في الدنيا والآخرة .
ومنها : الشفاعة في دخول الجنة ، كما في الحديث : " أنه " صلى الله عليه وسلم " أول من تفتح له الجنة ، وأن رضوان خازن الجنة يقول له : أمرت ألا أفتح لأحد قبلك " .
ومنها : الشفاعة المتعددة حتى لا يبقى أحد من أمته في النار ، كما في الحديث : " لا أرضى ووأحدا من أمتي في النار " أسأل الله العلي القدير أن يرزقنا شفاعته ، ويوردنا حوضه ، آمين .
وشفاعته الخاصة في الخاص مثل شفاعته لعمه " أبو طالب " ، فيخفف عنه بها ما كان فيه ، ومنها : شهادتة على الرسل ، وشهادة أمته على الأمم وغير ذلك ، وهذه بلا شك عطايا من الله العزيز الحكيم لحبيبه وصفيه الكريم ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما " أضواء البيان 559
ولسوف يعطيك ربك فترضى :
يرضى بدينه وربه ، يرضى بقدره ونصيبه من سراء أو ضراء ، من غني وفقر ، من عسر أو يسر ، يرضى فلا يستعجل ولا يستبعد الغاية " يقول صاحب الظلال : والرضى جزاء أكبر من كل جزاء " 3923 في ظلال القران .
" واللام الداخلة علي " سوف " لام إبتداء المؤكدة لمضمون الجملة ، والمبتدأ محذوف تقديره ولأنت سوف يعطيك ، ونحوه " لأقسم " فيمن قرأ كذلك لأن المعني لأنا أقسم ، وهذا لأنها إذا كانت لام قسم لا تدخل علي المضارع إلآ مع نون التوكيد ، فيتعين أن تكون لام إبتداء ، ولام الإبتداء لا تدخل إلآ علي المبتدأ والخبر ، فلابد من تقديره مبتدأ وخبر كما ذكرنا، كذا ذكره صاحب الكشاف، حيث يقول : هي لام القسم واستغني عن نون التوكيد لأن النون إنما تدخل ليؤذن أن اللام ، لام القسم ، وليست لام الإبتداء ، وقد علم انه ليس للإبتداء لدخولها علي " سوف " لأن لام الإبتداء لا تدخل علي سوف ، وذكر أن الجمع بين حرفي التأكيد يؤذن بأن العطاء كائن لامحالة وإن تأخر . " تفسير القران الجليل الجزء الثالث صفحة 718 سورة الضحى .
ولسوف يعطيك ربك فترضى ..
يقول الشنقيطي : " وليس بعد الرضى مطلب ، ولذا فقد جاء مؤكدا باللام وسوف ، وقال بعض العلماء : يعطيه في الدنيا من إتمام الدين وإعلاء كلمة الله ، والنصر على الأعداء ، والجمهور : أنه في الآخرة ، وهذا وإن كان على سبيل الإجمال ، إلا أنه فصل في بعض المواضع ، فأعظمها ما أشار إليه قوله تعالى "عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " الإسراء 79 .أضواء البيان
ولسوف يعطيك ربك فترضى :
يقول الدكتور محمود الزين " إنها بشارة أخرى لتأكيد استمرار الفضل الإلهي في المستقبل عليه صلى الله عليه وسلم وقدم فيه المفعول على الفاعل تعجيلاً للإيناس بالخطاب مع وقوع فعل العطاء عليه وجئ بالفاعل بلفظ الرب لإفادة أن العطاء مراد به الخير له " صلى الله عليه وسلم " لأن المربي لا يعطي إلا إذا كان العطاء خيراً لمن يعطى.
وأضيف إلى ضمير الخطاب لزيادة الإشعار بالقرب وزيادة الإيناس به ، وحذف مفعول " يعطي " الثاني أي لم يقل يعطيك كذا أو كذا لإفادة عموم العطاء أنواعاً ومقداراً كأنه قيل " يعطيك من كل شيء يرضيك " وإنما أضيفت كلمة يرضيك من كلمة فترضى الدالة على أن العطية مما يحبه فهو يرضى عنها ، وفي قوله " فترضى " كناية عن أن هذا العطاء سيكون في غاية الكثرة وغاية الفضل بحيث إنه لا تطلب نفسه بعد ذلك شيئاً ، وفي الآية حذف مفعول " ترضى " اكتفاءً بدلالة ما قبله عليه ، والمعني " ترضى بما يعطيك ، وصيغة الاستقبال تفيد الاستمرار بالعطاء المرضي له " صلى الله عليه وسلم ".
وجاء القسم الثاني من السورة " ولسوف " للتذكير بماضي النعم عليه " صلى الله عليه وسلم " واثر ذلك هو إقامة البرهان على الإحسان الجديد في المستقبل كأنه يقول : " أنعمت عليك فيما مضى فإني لا أغير سنتي معك بل هو عطاء دائم حتى تلقى الله " تفسير سورة الضحى .
يقول شيخنا محمد علي الصابوني : " سوف يعطيك ربك في الآخرة من الثواب والكرامة والشفاعة وغير ذلك الي أن ترضي وقال ابن عباس هي الشفاعة في أمته حتي يرضي لما روي أن النبي " صلي الله عليه وسلم " ذكر أمته فقال : اللهم أمتي أمتي وبكي ، فقال الله يا جبريل إذهب الي محمد وأسأله ما يبكيك ؟ وهو أعلم – فأتي جبريل رسول الله وسأله فأخبره رسول الله بما قال ، فقال الله يا جبريل : إذهب الي محمد وقل له : إنآ سنرضيك في أمتك ولا نسوءك " أخرجه مسلم .
وفي الحديث " لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته ، وإني قد إختبئت " إدخرت " دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة .. الحديث " أخرجه الشيخان البخاري ومسلم .
قال الخازن : والأولي حمل الآية علي ظاهرها ليشمل خيري الدنيا والآخرة معا فقد أعطاه الله تعالي في الدنيا النصر والظفر علي الأعداء وكثرة الأتباع والفتوح ، وأعلي دينه وجعل أمته خير الأمم ، وأعطاه في الآخرة الشفاعة العامة والمقام المحمود " صفوة التفاسير صفحة 573 .
والعطاء نوعان " مادي – معنوي " :
فكل من أعطي " قلما أو كتابا أو مبلغ من المال " فقد أعطي لغيره عطاء مادي ، أما العطاء المعنوي فقد يكون كلمة مدح أو تشجيع أو حتي نظرة عطف .
والعطاء الإلهي للبشر ، يختلف عن عطاء البشر للبشر ، كما أن عطاء الله للبشر ، يختلف عن عطائه لرسول الله " صلى الله عليه وسلم " ، وعطائه لرسول الله وأمته يختلف عن عطائه لسائر رسله وأنبيائه وأممهم ، لأنه أعطي لرسول الله وأمته مالم تعطاه أمة من قبل والأحاديث في هذا كثيرة ومتواترة .
والعطاء المعنوي لا يتحقق الآ إذا أستشعر الإنسان معية الله في نفسه ، ومن ثم فهو ثمرة المعرفة ، تعالوا بنا نقرأ علي سبيل المثال قول الله " إلآ تنصروه فقد نصره الله ، إذ أخرجه الذين كفروا ثاني إثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن " .. لماذا، وكيف لا يحزن وقد طلبه المشركون ورصدوا ألف ناقة لمن يأتي به حيا أو ميتا ؟ ببساطة شديدة لأن عقيدة ويقين رسول الله هو " لا تحزن إن الله معنا " الآية 40 من سورة التوبة .
وهنا نتوقف قليلا فالآيات تصف لنا حال رسول الله بعد ثلاثة عشر عام قضاها في مكة ذاق خلالها هو ومن أمنوا به شتي أنواع العذاب والعقاب ، الي أن أذن الله له ولصاحبه سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله تعالي عنه وأرضاه بالهجره الي يثرب " المدينة المنورة " ، وخلال ذلك كان المشركون مجتمعون في دار الندوة للتفكير في الخلاص من رسول الله ، فلما أجمعوا علي قتل رسول الله ،" صلى الله عليه وسلم " بمشاركة ومباركة نحو 40 قبيلة شارك شبابها في طلب رسول الله ، كان النبي " صلى الله عليه وسلم " يعد لهجرته التي هي بداية عز الإسلام ، وخرج النبي وصاحبه ، وفي الطريق احتميا بغار ثور " الذي لا يتسع الآ لرجلين جالسين ، نظرا لضيقه الشديد " نحو ثلاثة أيام فأشفق أبو بكر علي رسول الله حين رأي المشركون وقد أحاطوا بالغار ، ولسان حاله يقول : لونظر أحدهم تحت قدمه لرأنا ، لأن حساباتنا العادية لن تصل بنا لأ بعد من هذا ، فبماذا أجاب النبي كما يحدثنا القرآن ؟ " لا تحزن إن الله معنا " والحاصل أنه حين إستحضر النبي " صلى الله عليه وسلم " قوة الله قياسا علي قوتهم أجاب بثقة ويقين " إن الله معنا " فكيف كانت النتيجة أن الله سبحانه وتعالي منحه من عطائه " فأنزل الله سكينته عليه " سكينته هو " يعني مش مجرد سكينه وفقط ، أوجزء من السكينة ، وإنما سكينته هو سبحانه وتعالى ، فأي عطاء هذا .
يقول ابن القيم رحمه الله في شرح منزلة السكينة :
السكينة منزلة من منازل المواهب ، لا من منازل المكاسب ، وقد ذكر الله سبحانه السكينة في كتابه في عدة مواضع :
الأولى : قوله تعالى :" وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ " البقرة/248.
الثانيه : قوله تعالى :" ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ" التوبة/26.
الثالثه : قوله تعالى : " إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا " التوبة/40.
الرابعه : قوله تعالى : " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ " الفتح/4.
الخامسه : قوله تعالى : " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا " الفتح/18.
السادسه : قوله تعالى : " إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ " الفتح/26.
ومن خلال ما سبق يتضح المقال ، فما من آية ذكرت فيها السكينة للنبي ،إلآ وصحبها ضمير المخاطب الذي يعود علي رب العزة " سكينته هو سبحانه وتعالي " أنظر، " فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ " و " فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ " و " ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ " وذلك من خصوصياته " صلي الله عليه وسلم " .
قال ابن القيم رحمه الله : وكان شيخ الإسلام إبن تيمية إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة ، و قد استفاد ابن القيم من هذه الفائدة العظيمة من شيخه فعمل بها حيث يقول " و قد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه ، فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه و طمأنينته "
وعلي كل فنحن في أمس الحاجة اليوم، إلي فتح نوافذ الصبر والسكينة ، لتدخل النفوس الى واحات الرضى والرحمة من أوسع أبوابها ، فتذوق طعم الراحة و الطمأنينة ، لتُشرق حينئذ الحياة و تُذاق لذتها ، فلا يضر المرء حينها أن يعيش في وسط هذا الزخم المذهل من جمود الحياة و تقلص سعادتها ، فالعبد يحتاج الى كل ملطف يلطف به أرجاء نفسه لتصفو ، و يطرق كل باب يستطيعه ليترقى في درجات الفلاح و يعلو ، و إن القرآن الكريم أعظم ما تطمئن به القلوب و ترتاح إليه النفوس ، و أنجع ما تُدفع به الهموم و الأتراح .
والله إن العطاء هنا فاض حتي طال أبي بكر الصديق " ثان إثنين إذ هما في الغار " ولعل هذا يتضح من تفسير الإمام العلامة أبي البركات محمود النسفي حين يقول : " فأنزل الله سكينته عليه " على النبى ، أو على أبي بكر لأنه كان يخاف ، وكان النبى " صلى الله عليه وسلم " ساكن القلب، بدليل " إذ يقول لصاحبه لا تحزن " فهو الذي يقول لصاحبه لا تحزن " إن الله معنا " صفحة 655 – تفسير القرآن الجليل - الجزء الأول سورة التوبة .
والمعني علي هذا التفسير الذي يسوقه إلينا أبي البركات النسفي " أن رسول الله كان ساكن القلب مطمئنا لإستحضاره معية الله في نفسه ، ففاض عطاء الله عليه وعلي صاحبه ، أمنا ، وسلاما ، وسكنا ، وطمأنينة ، فسكن أبو بكر بسكن رسول الله وثباته ". ثم ماذا ؟ " وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم " فهو سبحانه وتعالي يعز بنصره أهل كلمته ، ويذل أهل الشرك بحكمته ، فأي عطاء هذا ، وهل بعد هذا العطاء عطاء .
وعطاء الله للبشر يختلف عن عطاء البشر للبشر، لأن البشر قد يعطي من لا يستحق ، وقد أعطي لمن يجهل القراءة والكتابة " قلم وكتاب " فلا يستفاد من العطاء ، وقد يعطي الإنسان لمن لا يقبل العطاء إستغناء أو إستعلاء، وقد يجور الإنسان في عطائه ، كأن يعطي واحدا من أولاده ويحرم الآخرين، وإن أعطيت فأنا أنتظر كلمة الشكر ، ولو أعطيت نقص ما عندي ، وقد أعطي ما لا أملك لمن لا يستحق ، بخلاف عطاء الله للبشر لأنه لو أعطي لكل الناس مثل جبل أحد ذهبا ما نقص ذلك من ملكه شيئا .
كما أن عطاء الله تحكمه صفات " العلم – الإرادة – القدرة " فهو حكيم في عطائه ، عليم خبير بحال خلقه ، ولذا كان علي المسلم أن يعد نفسه لتقبل عطاء الله ، وأن يوقن في قرارة نفسه ، أنه سبحانه وتعالي له حساباته ، التي تختلف عن حساباتنا ، بدليل قوله تعالي " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون " سورة البقرة آيه 216 فإذا عرفت أن عطاء الله كله خير فالزم .
ولسوف يعطيك ربك فترضى .. والرضى أمر نسبي فما يرضيني لا يرضيك ، وما يرضي زوجتي لا يرضي زوجتك وهكذا ، لذلك كان من جملة عطاء الله لرسول الله " صلي الله عليه وسلم " أن جاء العطاء في هذه الآية محفوفا بالرضى ، وفي هذا مبالغة في العطاء لأننا سنكتشف فيما بعد ، كيف أن الله جعل رضى رسول الله صلي الله عليه وسلم مقدم علي أشياء كثيرة ، لدرجة أنه سبحانه وتعالي قدم رضاه في مثل قوله تعالي " قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها .. " البقرة 144
ترضاها أنت يا رسول الله ، حيث جعل رضا رسول الله ، مقدم علي التوجه في العبادة لأداء الصلاة ، التي هي عماد الدين ، فأي عطاء هذا ، وأي رضا هذا ، سيدي يا رسول الله .
ولسوف يعطيك ربك فترضى .. ولما كان العطاء هنا لرسول الله كان من المناسب أن يعبر الله عن العطاء بصيغة المضارع فيقول : " يعطيك " ومعلوم أن فعل المضارع يفيد الإستمرار والتجدد ، وكأنه أراد أن يخبرنا أن عطاء الله لرسوله سيظل موصولا الي أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وكيف ينقطع عطاء الله الكريم عن رسول الله وهو واصاله في قوله " ربك " بكاف خطاب يحنوا عليه بها من جديد ، ليضفي علي الآيات دفأ ، وعلي قلب رسول الله سكينة ، وعلي جوارحه طمأنينة ، ليوفر له إيواء مكتمل الأركان لا يبحث رسول الله بعدها علي إيواء ، وركن ركين وحصن حصين يمنع رسول الله عند الشدة ويغيثه لحظة الغوث فاللهم صلي وسلم وبارك عليك يا علم الهدي .
وعن عطاء الله لأمة رسول الله فحدث ولا حرج ، حيث تعددت الآيات ، وتواترت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله في هذا وهي معلومة للجميع .
يقول الحسين بن مسعود البغوي : وقال حرب بن شريح سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول : إنكم يا معشر أهل العراق تقولون : أرجى آية في القرآن : قوله تعالي " قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " الزمر 53 ، وإنا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب الله " ولسوف يعطيك ربك فترضى " من الثواب ، وقيل : من النصر والتمكين وكثرة المؤمنين " تفسير البغوي – تفسير سورة الضحى .
للحديث بقية - انتظروا الجزء الرابع واﻷخير قريبا
- قرأت 2144 مرة