إشراقات الضحـى - الجزء الثاني

-A A +A

سورة الضحى .. سورة مكية .. عدد أياتها إحدى عشر .. نزلت بعد سورة الفجر
أول ما تقع عين القارئ علي آيات الذكر الحكيم ، تقع علي  هذا التعريف ، بين يدي كل سورة " سورة كذا ، وعدد آياتها كذا ، نزلت بعد سورة كذا ، " كما هو الحال في سورتنا هذه ، مجرد تعريف بسيط ، يخبرنا باسم السورة ، وموقعها من القرآن ، وعدد آياتها ، ومكان نزولها ،" مكيه هي أم مدنية " وهكذا فتعالوا بنا نتعرف علي سورتنا من قريب ..  
الـ " سورة " هي الجامعة لجمل آيات بفاتحة لها وخاتمة .. واشتقاقها من سور المدينة ، الذي يحيط بها ، فيمنع غيرها من الدخول اليها ويحمي سكانها ، وكل سورة من سور القران مستقله إستقلالا تاما وإن كان يربطها بباقي السور علاقة " تفسير القران الجليل المسمي بمدارك التنزيل وحقائق التأويل صفحة 509 بتصرف
و" الضحى " نفس من أنفاس الصبح ، يوحي للقلب البشري ، ويهمس في أعماقة بأدق الأسرار والمشاعر، كأنها تخلقه من جديد ليستيقظ علي مشهد الصبح عند إشراقه وظهوره، فيستقبل النور الإلهي الذي يعم إشراقه علي كل المخلوقات من حوله ، ولهذا يوجه القران الأبصار والمدارك إليه لينبه الغافلين لأقداره ودلالته العظيمة .
والضحى حين يجيئ ، فإنه يبرز للنفس البشرية ويوحي إليها بجمال الكون البديع ، وحيوية مشاهده الفتانة ، ليدلل للإنسانية أن هذا القران الموحي به الي رسول الرحمة والإنسانية ، إنما هو صادر عن تلك القدرة المبدعة التي أنشأت ذلك الجمال علي غير مثال ، إنها حقيقة عظيمة القدر ثقيلة الوزن ومشهد كوني يلمس أوتار القلوب " في ظلال القران – الجزء السادس ص3843 بتصرف .
و" الضحى " مظهر كوني ، يبعث الحياة في النفوس والأبدان ، كما أنه تعبير حي يسكب في روح الإنسان أسرارا ، ويشي له بالقدرة التي خلفته ، لتحدثه بصدق الحقيقة الإيمانية التي دعى إليها سيد الخلق وحبيب الحق رسول الله " صلى الله عليه وسلم".
ولعل في إختيار الله للضحى حسبما أري ليكون إسما علما لهذه السورة ما في الضحى من وضوح الرؤية لأنه وقت إرتفاع الشمس في صدر النهار ، وما في دعوة النبي " صلي الله عليه وسلم " من ظهور، فكلاهما " الضحى ودعوة رسول الله " فيهما من النور ما يكفل هداية الناس للحق بعد ظلام الليل وضلال الجاهلية ، وهو ما قد يبرز العلاقة بين السورة واسمها حسبما أري  .
 مكية ..
والقران إما " مكي " وهو كل ما نزل قبل هجرة المصطفي صلي الله عليه وسلم ولو في غير مكة .. وإما " مدني " وهو كل ما نزل بعد هجرة النبي صلي الله عليه وسلم ولو كان في المدينة ، وللعلماء في ذلك مذاهب وإختلافات .
وعلي كل ، فلكل منهما " المكي و المدني " صفات وخصائص تميزه عن الآخر ، وهما أي " المكي والمدني " علم من علوم القران ، جليل الفائدة ،طيب الآثر، لأنه يعرفنا علي مراحل الدعوة المحمدية وتطورها ،ويضع أيدينا علي خطواتها الحكيمة المتدرجة مع الأحداث والظروف ، كما يوقفنا علي مدي تجاوب الدعوة الإسلامية مع البيئة العربية بمكة والمدينة ، ويوقفنا علي أساليبهما في مخاطبة المؤمنين والمشركين وأهل الكتاب .
يقول الدكتور الحسيني أبو فرحة – مأدبة الله نقلا عن صحيح البخاري الجزء السادس صفحة 185 " فإذا سلم الناس الي الإسلام ، نزل الحلال والحرام ولو أن الله أنزل التشريعات أولا مثل " لا تشربوا الخمر " لقالوا : لا ندع الخمر أبدا .. ولو أنزل عليهم " لا تزنوا " لقالوا : لا ندع الزني أبدا ، ولذا كان الخطاب القراني المكي خطاب موجه الي الفطرة الإنسانية " صفحة 358 – 359 بتصرف .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
والإستعاذه تحفظ القارئ لآيات القران من وساوس الشيطان ومن وساوس الوسواس الخناس " الذي يوسوس في صدور الناس " الناس آية 4 ، لئلا يطرأ علي ذهن القارئ أو المستمع أو المنصت لآيات القران الكريم فكرة أو خطرة فتفسد عليه حلاوة الأنس بالله ، فهي سلاح المسلم الرباني لمحاربة عدو لا قبل له به ، ولذا فقد تكفل به وحده وأعاذنا إياه علي أن نعستيذ به سبحانه وتعالي منه ، نسأل الله العفو والعافية من وساوس الشياطين " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم " 200 الآية سورة الأعراف .
 
بسم الله الرحمن الرحيم
" قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها علي أن التسمية ليست بأية من الفاتحة ولا من غيرها من السور وإنما كتبت للفصل والتبرك بالإبتداء بها وهو مذهب الإمام أبو حنيفة النعمان ومن تبعة رحمهم الله ، ولذا لا يجهرون بها عندهم في الصلاة .
وقراء مكة والكوفة علي أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة ، وعليه الشافعي وأصحابه رحمهم الله ولذا يجهرون بها في الصلاة وقالوا قد أثبتها السلف الصالح في المصحف مع الأمر بتجريد القرآن عما ليس منه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله " تفسير القرآن الجليل – المجلد الأول ص 1 .
والبسملة : تبركا بإسم الله، فبسمه تستفتح المغاليق ، وبسمه تجلب الأرزاق ، وبسمه ييسر كل أمر عسير ، وتستجلب الرحمات ، وكيف لا وهو الرحمن الرحيم ؟
والبسملة : بشارة من الله لقارئ القران ، والمستمع والمنصت  لآياته وما تتضمنه من أحكام ونور بيان ، يقول سبحانه : " وإذا قرئ القران فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " الأية 204 سورة الأعراف .
فالرحمة باب من أبواب القران لا يفتح إلآ لمن لجأ إليه فمن أراد التعلق برحمته فعليه إستجلابها من خلال قراءة القران ، وعندها وحسب ستجد البشارة في مطلع كل سورة " بسم الله الرحمن الرحيم " وكأنه سبحانه وتعالي يعلمنا أنه ما من عمل يشتغل به الإنسان، الآ وهو مطالب بتقديم البسملة عليه وإلآ فهو عمل أبتر منزوع البركة .. فبسمه تحل البركة في المال والآهل والولد ، وبسمه تحل البركة في الطعام ، يقول النبي لجليسه من الأطفال علي مائدة الطعام والشراب :" يا غلام سمي الله وكل بيمينك وكل مما يليك " صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم  .

الآيات :  " والضحى والليل إذا سجى .. "

" بدأت السورة بالمقصود الأصلي ، وهو نفي " الترك والقلى " من الله عز وجل لرسول " الله صلى الله عليه وسلم " وبأسلوب صريح وقوي وحاسم ولافت للانتباه ، ثم كررت السورة القسم مرتين " والضحى والليل إذا سجى .. وهو إطناب ، والمتكلم إنما يعمد إلى أسلوب القسم ، ليعطي للكلام قوة في التأكيد ، لتنتزع من نفس المخاطب كل الاحتمالات والشبهات ، فتملؤها باليقين والطمأنينة ، وذلك تبعا لثقة المخاطب بالمتكلم في يمينه ، وثقته به في إمكان تحقيق ما أقسم عليه ، فإذا كان الحالف هو الله سبحانه وتعالى ، وكان المخاطب هو رسوله وأعظم الخلق إيماناً به وبتحقيق ما أقسم عليه ، فذلك أعظم ما يمكن وقوعه من إزالة خوف القطيعة ، ومن إفعام النفس بالطمأنينة والسرور " تفسير صورة الضحى للدكتور محمود أحمد الزين – بتصرف .
" والضحى " إسم لوقت إرتفاع الشمس في صدر النهار .. " والليل إذا سجى " إذا أشتد ظلامه وغطي كل شيئ في الوجود " قال ابن عباس : " سجى " أقبل بظلامه " تفسير الخازن 4 / 258 .
وقال الأصمعي : سجو الليل تغطيته النهار ، مثل يسجي الرجل بالثوب ، ويقول بن المختار الشنقيطي صاحب أضواء البيان في إيضاح القران بالقران وقيل : المراد به هنا النهار كله ، كما في قوله " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون " الأعراف 97 - 98  ، وقوله : " والليل إذا سجى " قيل : أقبل ، وقيل : شدة ظلامه ، وقيل : غطى ، وقيل : سكن ، واختار ابن جرير أنه سكن بأهله ، وثبت بظلامه ، قال : كما يقال : بحر ساج ، إذا كان ساكنا .
ومنه قول جرير :
ولقد رميتك يوم رحن بأعين     ينظرن من خلل الستور سواج

والواو هنا للقسم .. والقسم منا لا يكون إلآ بالله ، فليس لأحد من خلقه أن يقسم إلا بذاته العلية ، لقوله " صلي الله عليه وسلم " : " من حلف بغير الله فقد أشرك " ، وقوله صلي الله عليه وسلم : " من كان حالفا فليحف بالله أو ليصمت " وقوله : " من حلف علي ملة غير الإسلام فهو كما قال " ، يقول الشيخ عبد الله الشرقاوي صاحب شرح مختصر الزبيدي: والحاصل أنه يحكم عليه بالذي نسبه لنفسه ، وظاهره أنه يكفر ، وهو محمول علي من أراد أن يكون متصفا بذلك ، إذا وقع المحلوف عليه لأن إرادة الكفر كفر ، فيكون الحال أو المراد التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم ، ولا كفارة علي من حلف بغير الإسلام ، بل يأثم ويلزمه التوبة ، لأنه " صلي الله عليه وسلم " جعل عقوبته في دينه ولم يجعلها في ماله " .
وإذا كان القسم غير جائز إلآ بالله ، كان علي المسلم أن يتقي الله في قسمه ، فلا يقسم بغير الله ، ولا يقسم الآ لضرورة لئلا يحقر من شأن الله ، ولا يقسم الا علي حق لأن الحنث في القسم يعرض صاحبه لسخط الله ، ولذا فقد شرع الإسلام كفارة لليمين، وإذا أقسم المسلم فعليه أن يفي بالقسم إجلال لذات الله سبحانه وتعالى .
أما بالنسبة لله تعالى فله أن يقسم بما يشاء ، وقتما يشاء ، وعلي ما يشاء، وقيل هناك محذوف في الآية ، والمقصود هنا بالقسم هو " رب الضحى ، ورب الليل إذا سجى " .
 يقول ابن المختار الشنقيطي : " أقسم تعالى بالضحى والليل هنا فقط لمناسبتها للمقسم عليه ; لأنهما طرفا الزمن وظرف الحركة والسكون ، فإنه يقول له مؤانسا : " ما ودعك ربك وما قلى " ، لا في ليل ولا في نهار .
 والليل .. ظلمة وسكن ، نوم ولباس ، موت وساتر ، وسر من الأسرار الكونية ، إليه يهرع العابدون طمعا في الإخلاص ، إذ فيه يأنس بتلقي الفيوضات الربانية ، والنفحات الإلهية ، وفيه  يستقبل نور الله  واشعاعاته ، وكيف لا وهو القائل عز من قال : " الله نور السماوات والأرض " سورة النور 35 ،  ومن خلاله يستقبل إيحاءاته وإيقاعاته ، وهمساته من خلال أوامره ونداءاته في الليل الساجي .
والليل " هو زاد رسول الله لإحتمال القول الثقيل والعبء الذي ينتظر الرسول الأمين ، ومن بعده ينتظر كل من يدعوا بهذه الدعوة في كل حين ومن كل جيل ، إنه الليل الذي يستشعر فيه الرسول حلاوة الذكر وللصلاة فيه خشوع ، وللمناجاة فيه شفافية " في ظلال القران- صفحة  3746 - الجزء السادس " .
والليل عند رسول الله له خصوصية ففي الحديث أنه قال لأم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها عند نزول " يا أيها المزمل قم الليل الآ قليلا .. الآيات " من سورة المزمل " مضي عهد النوم يا خديجة .. وما عاد منذ اليوم إلآ السهر والتعب والجهد الشاق من وجهة نظرنا نحن أما هو " صلي الله عليه وسلم " فكان قيام الليل من أحب العبادات إليه " وجعلت قرة عيني في الصلاة "  فكان إذا جن الليل هيأ نفسه للقاء ربه " ليعمل قوله " فإذا فرغت فانصب .. وإلي ربك فارغب "، وذلك دليل علي أن النبي عرف حقيقة الأمر وقدره ، فكان يعد نفسه لإستقبال من نوع خاص حين يصلي والناس نيام حتي تتورم قدماه ،ويرتل من القران ما هو شفاء ورحمة ، ويبكي وينتحب طمعا في رضوان الله سبحانه وتعالي وإستجلابا لرحمته يقول ابن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله " صلي الله عليه وسلم " : " إن لكل نبي شهوة ، وإن شهوتي قيام هذا الليل " .
" لقد وجد النبي للذكر في الليل حلاوة ،وللصلاة خشوعا  وللمناجاة شفافية تسكب في القلب أنسا وراحة ،وشفافية ونورا قد لا يجدها العابد في صلاة النهار ، ومع هذا فقد صح عن وتره كما أورد الإمام أحمد في مسنده " أنه لم يتجاوز إحدي عشر ركعة في الليله الواحدة ، لأنه كان إذا صلي صلاة أحب أن يداوم عليها ، وكان إذا شغله عن قيام الليل " نوم أو وجع أو مرض " صلي من نهار إثنتي عشرة ركعة ."
والضحى و الليل .. قسم بظواهر كونية ، ويليهم في سورة التين قسم بثمار " التين والزيتون " وإذا وضعنا القسمين الي جوار بعضهما سنكتشف قطعا أن السورتين أرادا أن يلفتا نظر المخاطبين بهذه الآيات وهم أهل مكة إبتداء ، بإعتبار أن هاتين السورتين مكيتين ، ومعظم السور المكية تدور حول إثبات الوحدانية لله والتصديق بما جاء به النبي " صلي الله عليه وسلم " من وحي ورسالة ، كذلك الدعوة الي الإيمان باليوم الآخر وما يعقبه من جنة أو نار، وبالتالي كان من المناسب هنا أن ينوع في القسم ليقرب إلي الأذهان التي تتعاطي مع الوحي للمرة الأولي.
 فتارة يذكرهم بما حولهم من نباتات وثمار ، وكيف أن هذه الثمار ما كانت لتنبت إلآ بقدرة قادر عظيم وصانع مبدع ، وتارة أخري يقسم بالليل والنهار وما فيهما من قدرة ، ليسهل عليهم قبول فكرة البعث والحساب والجنة والنار وما الي ذلك ، فمن يدرك أن للكون خالق ومبدع وقيوم يقوم علي حاجة الخلق، فلن يجد فيما جاء به رسول الله " صلي الله عليه وسلم " ما يدعوا الي الشك أو الريبة .
فيما يقول صاحب الظلال " وكأنه يخاطب بها أي " الظواهر الكونية "، يخاطب بها القلب البشري الذي يغفل عن خطابها الكوني ويلوح بالقسم بها ليبرزها للمشاعر والضمائر في حيوتها وجمالها وإيحائها وإيقاعها ودلالتها علي اليد التي تمسك بأقدار هذا الكون وترسم خطواته وتبدل أحواله وأحوال الناس وهم غافلون " ظلال القران - الجزء السادس – صفحة 3869 
" والقسم بهذين الآنين " الضحى – الليل " فيه ربط بين ظواهر الكون ومشاعر النفس ، لأنه يوحي بلا شك ، الي القلب البشري بالحياة الشاعرة والمتجاوبة مع هذا الوجود الجميل الحي المتعاطف مع كل ما هو حي ، ليعيش في أنس من هذا الوجود غير موحش ولا غريب فيه أو فريد ، وفي هذه السورة بالذات يكون لهذا الأنس وقعه ، فظل الأنس هو المراد مده ، وكأنما يوحي الله لرسوله صلي الله عليه وسلم منذ مطلع السورة أن ربه أفاض من حوله الأنس في هذا الوجود ، ومن ثم فهو غير مجفوِ فيه ولا فريد" في ظلال القران – الجزء السادس – ص 3926 .
فيما يرى الإمام فخر الدين الرازي : أن الحكمة ههنا في الحلف بالضحى والليل فقط أن الزمان ساعة ، فساعة ، ساعة ليل ، وساعة ، ساعة نهار ، ثم يزداد فمرة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار ، ومرة بالعكس فلا تكون الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى ، بل للحكمة ، كذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح فمرة إنزال ومرة حبس ، فلا كان الإنزال عن هوى ، ولا كان الحبس عن قلى " التفسير الكبير - المجلد 18 - تفسير سورة الضحى .
ويضيف الإمام النسفي : وخص وقت الضحى بالقسم لأنها الساعة التي كلم الله فيها موسي عليه السلام تكليما ، وألقي فيها السحرة سجدا أو لمقابلته بالليل في قوله " والليل إذا سجى " وجواب القسم " ما ودعك ربك وما قلى " تفسير القران الجليل - المجلد الثالث ص 717 طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة 2010   .
وإن كان من حقي أن أختلف مع الإمام الجليل ، أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي ، فسوف أعلن هاهنا أن القسم بهاتين الآيتين الكونيتين في مستهل السورة ، إنما سيق للدلالة علي قدرة الله أولا ، الذي وحده يستطيع أن يخرج الليل من النهار ، ويدخل الليل في النهار ليأوي كل منهم الي الآخر ، دون أن يسبق أحدهما الآخر ، " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " سورة يس 40.
وكأن الله أراد أن يذكر رسول الله وصحبه ، وكل من يستمع أو يقرأ لآيات الذكر الحكيم ، أنه كما أن هذه الظاهرة الكونية تحتاج الي وقت حتي يدخل الليل في النهار وحتي يخرج النهار من إيهاب الليل فكذلك الوحي وتلك سنة الله فاصبر، فمهما طال الوقت فهو آت لا محالة ، وهذه واحدة " إنما امره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " يس 82 .
كما أنه في إستحضار رسول الله لهذه الآيات الكونية تذكير له بأنه كما أن الذي بعثه للناس بالحق وأيده به هو ذاته ذالك الصانع العظيم صاحب اليد الكبرى فلا تحزن ولا تيأس فمهما طال الليل فإن نور النهار آت لقوله " أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون " النحل 1  .
أضف الي ما سبق أن الضحى عنوان الضياء والنور بخلاف الليل الذي هو عنوان الظلمة والكفر فالقسم هنا من جنس ما جاء به رسول الله الذي بعث مؤيدا بنور الله ليخرج الناس من ظلمات الكفر الي نور الإيمان " نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء " سورة النور 35
والقسم هنا يسوقنا الي غاية كبرى لا تتحقق الآ بمعرفة سبب نزول السورة الكريمة التي نحن بصددها:
يقول الإمام الشيخ محمد علي الصابوني في صدر تفسيره صفوة التفاسير " إشتكى رسول الله " أي مرض أو أقعد " والله أعلي وأعلم ، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت إمرأة وهي أم جميل زوج أبي لهب – فقالت يا محمد : " صلي الله عليه وسلم " إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره قربك ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله " والضحى .. والليل .. الآيات  صفوة التفاسير - الجزء العشرين – ص 572 ".
بينما يقول الإمام الفخر الرازي قال المفسرون : أبطأ جبريل على النبي " صلى الله عليه وسلم " ، فقال المشركون : قد قلاه الله وودعه ، فأنزل الله تعالى عليه هذه الآية ، وقال السدي : أبطأ عليه أربعين ليلة فشكا ذلك إلى خديجة ، فقالت : لعل ربك نسيك أو قلاك ، وقيل : إن أم جميل زوج أبي لهب قالت له : يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك.
 وروي عن الحسن أنه قال : أبطأ على الرسول " صلى الله عليه وسلم " الوحى ، فقال لخديجة : " إن ربي ودعني وقلاني - يشكو إليها - فقالت : كلا والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك " فنزل قوله تعالي " ما ودعك ربك وما قلى ".
وطعن الأصوليون في هذه الرواية وقالوا : إنه لا يليق بالرسول " صلى الله عليه وسلم " أن يظن أن الله تعالى ودعه وقلاه ، لأنه يعلم أن عزل النبي عن النبوة غير جائز في حكمة الله تعالى ، ويعلم أن نزول الوحي يكون بحسب المصلحة ، وربما كان الصلاح في تأخير نزوله ، وربما كان خلاف ذلك ، فثبت أن هذا الكلام غير لائق بالرسول " عليه الصلاة والسلام " ، ثم إن صح ذلك يحمل على أنه كان مقصوده عليه الصلاة والسلام أن يجربها ليعرف قدر علمها ، أو ليعرف الناس قدر علمها ".
وإن كنت أرى ، أنه ليس معنى ذلك أنه " صلى الله عليه وسلم " ظن أن الله تعالى " ودعه وقلاه " ، وإنما هو صورة من صور حديث النفس و صورة من صور الفضفضة عما يجيش في صدره من حزن ألم به ، بسبب تأخر نزول القرآن عليه  من وجهة نظره " صلى الله عليه وسلم " .
وعلى كل فإن الإمام الزركشي رحمه الله يكشف لنا عن جواز نزول السورة أو الآية مرتين حسب الحاجة إذ يقول : وقد ينزل الشيئ مرتين تعظيما لشأنه ، وتذكيرا عند حدوث سببه خوف نسيانه كما قيل في الفاتحة : أنها نزلت مرتين مرة بمكة وأخرى بالمدينة " البرهان الجزء الأول صفحة 29 .   
وهو ما يجعل الخلاف على سبب النزول يكاد يختفي ، لأنها قد تكون نزلت على رسول الله في موقفين مختلفين ، فيحمل ذلك على تعدد نزول السورة ، والله أعلم .
واختلفوا في قدر مدة انقطاع الوحي ، فقال ابن جريج : إثنا عشر يوما وقال الكلبي : خمسة عشر يوما ، وقال ابن عباس : خمسة وعشرون يوما ، وقال السدي ومقاتل : أربعون يوما ، فيما أورد تفسير الإمام القرطبي خلافا بين العلماء حول المدة التي إنقطع فيها الوحي عن رسول الله مؤكدا أن بعضهم عدها إثنى عشر ليلة والآخر عدها ثلاثة عشر ، والبعض ذهب الى أنها كانت أربعين ليلة ".
 ولعلي أميل لرأى من قال أنها ثلاث عشر لأنها لو كانت ليلة أو ليلتين ما شعرت بهما أم جميل زوج أبي لهب قبحها الله ، وما إستشعرت السيدة خديجة القلق ولا تسرب الحزن الي قلب رسول الله ومن ثم أقول إن فترة الإنقطاع ما كانت لتقل عن إسبوعين وما كانت لتزيد علي الأربعين يوما .
واختلفوا في سبب احتباس جبريل عليه السلام ، فذكر أكثر المفسرين أن اليهود سألت رسول الله " صلى الله عليه وسلم " عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف ، فقال : " سأخبركم غدا ولم يقل إن شاء الله " فاحتبس عنه الوحي ، وقال ابن زيد : السبب فيه كون جرو في بيته للحسن والحسين ، فلما نزل جبريل عليه السلام ، عاتب رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وقال له : " أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة " ، وقال جندب بن سفيان : رمي النبي عليه الصلاة بحجر في إصبعه ، فقال : هل أنت إلا إصبع دميت .. وفي سبيل الله ما لقيت " فأبطأ عنه الوحي ، وروى أنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار .
يقول الإمام الشنقيطي : والروايات التي ذكرتم تدل على أن احتباس الوحي كان عن قلى ؟ ثم يجيب قائلا : أن ذلك كان تركا للأفضل والأولى ، وصاحبه لا يكون ممقوتا ولا مبغضا ، وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل : " ما جئتني حتى اشتقت إليك ، فقال جبريل : كنت إليك أشوق ولكني عبد مأمور " وتلا قوله تعالى : " وما نتنزل إلا بأمر ربك "  مريم : 64 ، أضواء البيان
ولعلي أميل الي أن إنقطاع الوحي لم يكن إنقطاع حقيقي وإنما حب رسول الله واشتياقه هو الذي جعله يظن ذلك ، خاصة أن القرآن كان ينزل على فترات لأسباب التشريع ، ليس أكثر ولكن رغبة رسول الله في سماع كلام الله من الآمين جبريل ، وحب رسول الله لرؤية الآمين رسول رب العالمين ، واشتياق النبي لسماع الجديد ، هو الذي جعله يستبطئ نزول القرآن عليه .
وعلي كل فلقد كان لإنقطاع الوحي عن رسول الله أثر شديد التبعية أحزن رسول الله وأدمي قلبه وأحزن عينه ، لدرجة أسعدت عدوه وأشاعت الفرحة بين مبغيضيه والحاقدين والناقمين عليه مما ساهم في زيادة حزنه وساعد علي إستشراء ألمه " صلى الله عليه وسلم "  فكان القسم العظيم في صدر السورة بيانا من الله وإعلانا واضحا " والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى " وكيف يبغضه وهو الذي أنزل " إن شانئك هو الأبتر " أي مبغضك هو الذي لا عقب له ولا نسل له .
يقول الإمام بن كثير " هذا قسم منه تعالي بالضحى وما جعل فيه من الضياء ، وبالليل إذا سكن فأظلم وأدلهم ، أنه لم يترك رسول الله منذ إختياره ولم يبغضه منذ أحبه وهو رد علي المشركين " مختصر بن كثير 3 / 649 بتصرف .
ولو توقفنا أمام جواب القسم لدلنا لا محالة علي مدي حب الله لرسوله " صلى الله عليه وسلم " إذ أننا سنلحظ حرف الكاف وهو ضمير خطاب في كلمة " ربك " في قوله " ما ودعك ربك " والتي يعود الخطاب فيها لرسول الله .. إقرأ الآية من جديد لتستشعر ما فيها من جمال الأنس وحلاوة القرب .. ردد الآية معي " ما ودعك ربك " ثم أتلوها من جديد " ما ودعك ربك .. الآيات"  ستكتشف أن الله لم يكتفي بإعلان حب رسول الله " صلي الله عليه وسلم " فقط ، وإنما ضمه الي ذاته العلية حيث ربط ضمير الخطاب في الآية وهو " الكاف " بذاته سبحانه وتعالي بـ" رب "، كما أنه أستعمل صيغة الربوبية ، ورب الشيئ صاحبه ، ولم يستعمل صيغة الأولوهية ، ليزداد قرب رسول الله أكثر وأكثر ، وهو قرب مكانة لا قرب مكان والله أعلي وأعلم ، مما يزيد جلاء معنى القرب ويدفع معنى التوديع والقلى ، كما أخر الفاعل عن الفعل أخر عن المفعول وهو ضمير خطابه " صلى الله عليه وسلم " ما ودعك ربك " زيادة في تعجيل نفي التوديع والقلى عنه " صلى الله عليه وسلم " فالمقام يجعل الحاجة إلى تعجيل ذكر المفعول أكثر وأنسب للمقصود حتى وصل الأمر إلى تأخير ذكر الفاعل " ربك " ، وقد كان ممكناً أن يذكر بدل " ما ودعك ربك وما قلى " فعل واحد يتضمن معناهما فيقال مثلاً " ما تركك ربك " وهو أوجز ، ولكن المقام مقام إزالة الوحشة والخشية ، وهو ما يقتضى العدول عن الإيجاز إلى الإطناب بالتفصيل فهو أقوى تأثيراً من الإيجاز وهو أنسب للواقع حيث إن من حوله " صلى الله عليه وسلم " كانوا فريقين فريقاً مشفقاً يخشى الترك ولو برفق دون بغض وهو السيدة خديجة ، وفريقاً حانقاً مستهزئاً مبغضاً يتمنى زوال الوحي ويسميه شيطاناً فكان التصريح بهذا التفصيل أنسب للواقع وأدعى لنفي كل وجوه الترك بطريق تفصيلي " تفسير سورة الضحى .
يقول العلامة أبي البركات النسفي : " وحذف الضمير من " قلى " كحذفه من " الذاكرات " في قوله تعالي من سورة الأحزاب " والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " ، يريد والذاكراته ، ونحوه " فآوى 0 فهدى 0 فأغنى " وهو إختصار لفظي لظهور المحذوف " تفسير القران الجليل صفحة 717 سورة الضحى .
فما أعظمها من منزلة ، وما أجملها من لحظات حين نزل الآمين جبريل بها من السماء علي قلب رسول الله " صلى الله عليه وسلم " ، ليعلمنا أهمية أن نحنوا على من نحب وأن نقترب أكثر ممن نربي حيث لا جفاء ، ولا خشونه في التعامل، ولكن حب وقرب .. بينهما أحاسيس ومشاعر فياضة .
يقول الدكتور محمود أحمد الزين " وقد جاء بعده التصريح بالفاعل " ربك " وأوثر فيه لفظ " الرب " على لفظ الجلالة لبيان أمرين ، أولهما : الإشارة إلى أن المربي لا يترك من يربيه لا توديعاً ولا قلى .
وثانيهما : الإشارة إلى أن تأخر الوحي عنه " صلى الله عليه وسلم " هذه المدة من باب تنمية الشوق وزيادته في نفسه " صلى الله عليه وسلم " إلى الوحي الذي جعله الله صلة بين الأرض والسماء صلة هداية وإرشاد وتزكية ورفعة ، وإنما تأخر الوحي عنه لتخفيف ما شعر به " صلى الله عليه وسلم " من ثقل الوحي كما حدث له في السورة الأولى وكما جاء بيانه في قوله سبحانه وتعالى " إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً " سورة المزمل آيه 5 .
ولو أننا قرأنا الآية الآن بعد هذا الإجتهاد في التحليل ستكتشف أن الله " ولله المثل الأعلى " ضم النبي اليه كما يضم أحدنا ولده الي صدره بعد طول سفر أو غياب ليعوضه عن حرمان الغياب ولحظات السفر ، فيا له من تعبير يحمل ضمن ما يحمل من معاني أنه سبحانه وتعالى يستبدل محنة إنقطاع الوحي عنه " صلي الله عليه وسلم " الي منحة ، وأي منحة هذه .. إنها منحة قرب ووصال ، ود وحب ، رضا وطمأنينة ، لحظات لن ينساها رسول الله ولن تغيب عن وجدان الأمة ما حيت على وجه البسيطة .

للحديث بقية - انتظروا الجزء الثالث قريبا